فصل: طبرستان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: آثار البلاد وأخبار العباد **


 صفين

قرية قديمة البوار من بناء الروم بقرب الرقة على شاطيء الفرات من الجانب الغربي وما يليها غيضة ملتفة ذات بزور طولها نحو فرسخين وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الماء إلا طريق واحد مفروش بالحجارة وسائر ذلك عزب وخلاف ملتفة‏.‏

ولما سمع معاوية أن علياً عبر الفرات بعث إلى ذلك الطريق أبا الأعور في عشرة آلاف ليمنع أصحاب علي من الماء فبعث علي صعصعة بن صوحان فقال‏:‏ إنا سرنا إليكم لنعذر إليكم قبل القتال فإن أتيتم كانت العاقبة أحب إلينا‏!‏ وأراك قد حلت بيننا وبين الماء فإن كان أعجب إليك أن ندع ما جئنا له تقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا‏.‏

فقال معاوية لصعصعة‏:‏ ستأتيكم رايتي‏.‏

فرجع إلى علي وأخبره بذلك فغم علي غماً شديداً لما أصاب الناس في يومهم وليلتهم من العطش‏.‏

فلما أصبحوا ذهب الأشعث بن قيس والأشتر بن الأشجع ونحيا أبا الأعور عن الشريعة حتى صارت في أيديهم فأمر علي أن لا يمنع أحد من أهل الشام عن الماء فكانوا يسقون منه ويختلط بعضهم ببعض وكان ذلك سنة سبع وثلاثين غرة صفر‏.‏

وكان علي في مائة وعشرين ألفاً ومعاوية في تسعين ألفاً‏.‏

وقتل من الجانبين سبعون ألفاً‏:‏ من أصحاب علي خمسة وعشرون ألفاً ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفاً‏.‏

وفي قوم علي قتل خمسة وعشرون صحابياً بدرياً منهم عمار بن ياسر‏.‏

وكانت مدة المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام وكانت الوقائع تسعين وقعة وكانت الصحابة متوقفين في هذا الأمر لأنهم كانوا يرون علياً وعلو شأنه ويرون قميص عثمان على الرمح ومعاوية يقول‏:‏ أريد دم ابن عمي‏!‏ إلى أن قتل عمار بن ياسر والصحابة سمعوا أن النبي قال له‏:‏ تقتلك الفئة الباغية‏!‏ فعند ذلك ظهر للناس بغي معاوية فبذل قوم علي جهدهم في القتال حتى ضيقوا على قوم معاوية فعند ذلك رفعوا المصاحف وقالوا‏:‏ رضينا بكتاب الله‏!‏ فامتنع قوم علي عن القتال‏.‏

فقال علي‏:‏ كلمة حق أريد به باطل‏!‏ فما وافقوا فقال علي عند ذلك‏:‏ لا رأي لغير مطاع‏!‏ فآل الأمر إلى الحكمين والقصة مشهورة‏.‏

 صقلية

جزيرة عظيمة من جزائر أهل المغرب مقابلة لافريقية‏.‏

وهي مثلثة الشكل بين كل زاوية والأخرى مسيرة سبعة أيام‏.‏

وهي حصينة كثيرة البلدان والقرى كثيرة المواشي جداً من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والحيوانات الوحشية‏.‏

ومن فضلها أن ليس بها عاد بناب أو برثن أو إبرة وبها معدن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وكذلك معدن الشب والكحل والزاج ومعدن النوشاذر ومعدن الزئبق‏.‏

وبها المياه والأشجار والمزارع وأنواع الفواكه على اختلاف أنواعها لا تنقطع شتاء ولا صيفاً‏.‏

وأرضها تنبت الزعفران‏.‏

وكانت قليلة العمارة خاملة الذكر إلى أن فتح المسلمون بلاد افريقية فهرب أهل افريقية إليها وعمروها حتى فتحت في أيام بني الأغلب في ولاية المأمون فبقيت في يد المسلمين مدة ثم ظهر عليها الكفار وهي الآن في أيديهم‏.‏

وبهذه الجزيرة جبال شامخة وعيون غزيرة وأنهار جارية ونزهة عجيبة وقال ابن حمديس وهو يشتاق إليها‏:‏ ذكرت صقلّيّة والهوى يهيّج للنّفس تذكارها فإن كنت أخرجت من جنةٍ فإني أحدّث أخبارها ذكر أن دورها مسيرة ستة عشر يوماً وقطرها مسيرة خمسة أيام وهي مملوءة من الخيرات والمياه والأشجار والمزارع والفواكه‏.‏

بها جبل يقال له قصر يانه وهو من عجائب الدنيا‏.‏

على هذا الجبل مدينة عظيمة شامخة وحولها مزارع وبساتين كثيرة وهي شاهقة في الهواء وكل ذلك يحويه باب المدينة لا طريق إليها إلا بذلك الباب والأنهار تنفجر من أعلاها‏.‏

وبها جبل النار ذكر أبو علي الحسن بن يحيى أنه جبل مطل على البحر دورته ثلاثة أيام بقرب طبرمين فيه أشجار كثيرة وأكثرها البندق والصنوبر والارزن وفيه أصناف الثمار وفي أعلاه منافس النار يخرج منه النار والدخان وربما سالت النار منه إلى جهة تحرق كل ما مرت به وتجعل الأرض مثل خبث الحديد لا تنبت شيئاً ولا تمر الدابة بها ويسميه الناس الاخباث‏.‏

وفي أعلى هذا الجبل السحاب والثلوج والأمطار دائمة لا تكاد تقلع عنه في صيف ولا شتاء والثلج لا يفارق أعلاه في الصيف‏.‏

وأما في الشتاء فيعم الثلج أوله وآخره‏.‏

وزعمت الروم أن كثيراً من الحكماء يرحلون إلى جزيرة صقلية للنظر إلى عجائب هذا الجبل واجتماع النار والثلج فيه فترى بالليل نار عظيمة تشعل على قلته وبالنهار دخان عظيم لا يستطيع أحد الدنو إليها فإن اقتبس منها طفئت إذا فارقت موضعها‏.‏

وبها البركان العظيم قال أحمد بن عمر العذري‏:‏ ليس في الدنيا بركان أشنع منه منظراً ولا أعجب مخبراً‏!‏ فإذا هبت الريح سمع له دوي عظيم كالرعد القاصف ويقطع من هذا وقال أيضاً‏:‏ بها آبار ثلاث يخرج منها من أول الربيع إلى آخره زيت النفط فينزل في هذه الآبار على درج ويتقنع النازل ويسد منخره فإن تنفس في أسفلها هلك من ساعته يغترف ماءها ويجعله في اجانات فما كان نفطاً علا فيجمع ويجعل في القوارير‏.‏

صور مدينة مشهورة على طرف بحر الشام استدار حائطها على مبناها استدارة عجيبة بها قنطرة من عجائب الدنيا وهي من أحد الطرفين إلى الآخر على قوس واحد‏.‏

ليس في جميع البلاد قنطرة أعظم منها‏.‏

ومثلها قنطرة طليطلة بالأندلس إلا أنها دون قنطرة صور في العظم ينسب إليها الدنانير الصورية التي يتعامل عليها أهل الشام والعراق‏.‏

 طبرستان

ناحية بين العراق وخراسان بقرب بحر الخزر ذات مدن وقرى كثيرة‏.‏

من مفاخرها القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري أستاذ الشيخ أبي إسحق الشيرازي‏.‏

والقاضي أبو الطيب عاش مائة سنة ولم يختل منه عقله ولا فهمه وكان يفتي إلى آخر عمره ويقضي بين الناس ويناظر الفقهاء‏.‏

وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصول منها تعليقة الطبري مائة مجلد ثم كتاب في مذهب الشافعي قال الشيخ أبو إسحق الشيرازي صاحب المهذب‏:‏ لازمت حلقة درسه بضع عشرة سنة رتبني في حلقته وسألني أن أجلس في مجلس التدريس ففعلت ذلك‏.‏

وانه ولي القضاء بكرخ وكان رأى النبي عليه السلام في المنام فقال له‏:‏ يا فقيه‏!‏ ففرح بذلك فرحاً شديداً‏.‏

يقول‏:‏ سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيهاً‏.‏

مات سنة خمس وأربعمائة ببغداد عن مائة سنة وسنتين وصلى عليه الخليفة أبو الحسن المهتدي‏.‏

 طبرية

مدينة بقرب دمشق بينهما ثلاثة أيام مطلة على بحيرة معروفة ببحيرة طبرية وجبل الطور مطل عليها‏.‏

وهي مستطيلة على البحر نحو فرسخ‏.‏

بناها ملك من ملوك الروم اسمه طبارى‏.‏

بها عيون جارية حارة بنيت عليها حمامات لا تحتاج إلى الوقود وهي ثمانية حمامات قال أبو بكر بن علي الهروي‏:‏ أما حمامات طبرية التي قالوا إنها من عجائب الدنيا فليست التي على باب طبرية إلى جانب بحيرتها فإن مثل هذه كثيرة والتي هي من عجائب الدنيا في موضع من أعمال طبرية يقال له الحسنية وهي عمارة قديمة يقال انها من بناء سليمان بن داود عليه السلام‏.‏

وهو هيكل يخرج الماء من صدره وقد كان يخرج من اثنتي عشرة عيناً كل عين مخصوصة بمرض إذا اغتسل فيها صاحب هذا المرض عوفي بإذن الله تعالى والماء شديد الحرارة جداً عذب صاف طيب الرائحة يقصده المرضى يستشفون به‏.‏

وبينها وبين بيسان حمة سليمان عليه السلام يزعمون أنها نافعة لكل داء‏.‏

وبها بحيرة عشرة أميال في ستة أميال غؤورها علامة خروج الدجال‏.‏

وهي كبركة أحاطت بها الجبال ينصب إليها فضلات أنهار تأتي من حمة بانياس‏.‏

وبها معدن المرجان‏.‏

وحولها قرى كثيرة كبيرة وتخيل في وسط هذه البحيرة صخرة منقورة طبقت بصخرة أخرى تظهر للناظرين من بعيد يزعم أهل النواحي انها قبر سليمان عليه السلام‏.‏

وبطبرية قبر لقمان الحكيم عليه السلام من زاره أربعين يوماً يظهر منه الحكمة‏.‏

وبها عقارب قتالة كعقارب الاهواز‏.‏

وقال صاحب تحفة الغرائب‏:‏ بطبرية نهر عظيم والماء الذي يجري فيه نصفه حار ونصفه بارد ولا يمتزج أحدهما بالآخر‏.‏

فإذا أخذ من النهر في إناء يبقى خارج النهر بارداً‏.‏

وبأرض طبرية موضع به سبع عيون ينبع الماء منه سبع سنين متواليات وييبس سبع سنين متواليات ينسب إليها سليمان بن أحمد بن يوسف الطبراني أحد الأئمة المعروفين والحفاظ المكثرين والمشايخ المعمرين من تصانيفه المعجم الكبير في أسماء الصحابة لم ينصف مثله‏.‏

ذكر أبو الحسن أحمد بن فارس صاحب المجمل قال‏:‏ سمعت الأستاذ ابن العميد وزير آل بويه يقول‏:‏ كنت أظن لا حلاوة في الدنيا فوق الرئاسة حتى شاهدت مذاكرة سليمان الطبراني وأبي بكر الجعابي فكان الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه والجعابي يغلب الطبراني بزيادة فطنته حتى ارتفعت أصواتهما ولا يكاد يغلب أحدهما الآخر إلى أن قال الجعابي‏:‏ عندي حديث ليس عند أحد‏!‏ فقال الطبراني‏:‏ هاته‏!‏ فقال‏:‏ حدثني أبو خليفة قال‏:‏ حدثنا سليمان بن أيوب‏.‏

وذكر الحديث فقال الطبراني‏:‏ أنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو خليفة فاسمعه مني حتى يعلو اسنادك‏!‏ فخجل الجعابي قال ابن العميد‏:‏ فوددت أن الوزارة للطبراني وانا الطبراني وفرحت له كما فرح هو‏.‏

قيل‏:‏ ان الطبراني ورد أصفهان وأقام بها سبعين سنة وتوفي سنة ستين ومائتين عن مائة سنة‏.‏

طرسوس مدينة بين انطاكية وحلب‏.‏

مدينة جليلة سميت بطرسوس بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح قال محمد بن أحمد الهمذاني‏:‏ لم تزل طرسوس موطن الزهاد والصالحين لأنها كانت بين ثغور المسلمين إلى أن قصدها فغفور ملك الروم سنة أربع وخمسين وثلاثمائة في عسكر عظيم وكان فيها رجل من قبل سيف الدولة يقال له ابن الزيات عجز عن مقاومة الروم سلم إليهم على الأمان على شرط أن من خرج منها متاعه لم يتعرض ومن أراد المقام مع اداء الجزية فعل‏.‏

فلما دخل الكفار المدينة خربوا مساجدها وأخذوا من السلاح والأموال ما كان جمع فيها من أيام بني أمية وأخذ كل واحد من النصارى دار رجل من المسلمين ولم يطلق لصاحبها إلا حمل الخف واحتوى على جميع ما فيها وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم‏.‏

فمنهن من منعت الرجل ولده واتصلت بأهلها فيأتي الرجل إلى معسكر الروم ويودع ولده باكياً ولم تزل طرسوس في أيديهم إلى هذه الغاية‏.‏

بها موضع زعموا أنه من حمى الجن نزل به المأمون لما غزا الروم‏.‏

وكان هناك عين ماؤها في غاية الصفاء وكان المأمون جالساً على طرفها فرأى في الماء سمكة مقدار ذراع فأمر بإخراجها فأخرجوها فإذا هي سمكة في غاية الحسن بيضاء مثل الفضة فوثبت وعادت إلى الماء فوقعت رشاشات الماء على ثياب المأمون فغضب وأمر بإخراجها مرة أخرى فأخرجوها والمأمون ينظر إليها ويقول‏:‏ الساعة نشويك‏!‏ ثم أمر بشيها فأتى المأمون على المكان قشعريرة فأتى صاحب طبخه بالمكة مشوية وهو لم يقدر على تناول شيء منها واشتد الأمر به حتى مات‏.‏

قال الشاعر‏:‏ هل رأيت النّجوم أغنت عن المأ مون في عزّ ملكه المأسوس غادروه بعرصتي طرسوس مثل ماغادروا أباه بطوس العباسة بليدة بأرض مصر في غاية الحسن والطيب سميت بعباسة بنت أحمد بن طولون كان خمارويه زوج ابنته من المعتضد بالله وانه خرج بها من مصر إلى العراق فعملت عباسة في هذا الموضع قصراً وبرزت إليه لوداع بنت أخيها قطر الندى ثم زيدت في عمارته حتى صارت بليدة طيبة كثيرة المياه والأشجار من متنزهات مصر‏.‏

وبها مستنقع يأوي إليه من الطير ما لم ير في شيء من المواضع غيرها والصيد بها كثير جداً‏.‏

وكان الملك الكامل يكثر الخروج إليها للتنزه والصيد‏.‏

العريش مدينة جليلة من أعمال مصر‏.‏

هواؤها صحيح طيب وماؤها عذب حلو‏.‏قيل‏:‏ ان اخوة يوسف عليه السلام لما قصدوا مصر في القحط لامتيار الطعام فلما وصلوا إلى موضع العريش وكان ليوسف عليه السلام حراس على أطراف البلاد من جميع نواحيها فسكنوا هناك وكتب صاحب الحرس إلى يوسف‏:‏ ان أولاد يعقوب الكنعاني قد وردوا يريدون البلد للقحط الذي أصابهم فإلى أن أذن لهم عملوا عريشاً يستظلون به فسمي الموضع العريش‏.‏

فكتب يوسف عليه السلام يأذن لهم فدخلوا مصر وكان من قصتهم ما ذكره الله تعالى‏.‏

وبها من الطير الجوارح والمأكول والصيد شيء كثير والرمان العريشي يحمل إلى سائر البلدان لحسنه وبها أصناف كثيرة من التمر‏.‏

وغدر دهقانها يضرب به المثل‏.‏

يقال‏:‏ أغدر من دهقان العريش‏!‏ وذاك أن علياً لما سمع أن معاوية بعث سراياه إلى مصر وقتل بها محمد بن أب بكر ولى الأشتر النخعي مصر وأنفذه إليها في جيش كثيف فبلغ معاوية ذلك فدس إلى دهقان كان بالعريش وقال‏:‏ احتل بالسم في الأشتر فإني أترك خراجك عشرين سنة‏!‏ فلما نزل الأشتر العريش سأل الدهقان‏:‏ أي طعام أعجب إليه قالوا‏:‏ العسل‏!‏ فأهدى إليه عسلاً وكان الأشتر صائماً فتناول منه شربة فما استقر في جوفه حتى تلف فأتى من كان معه على الدهقان وأصحابه وأفنوهم‏.‏بليدة بقرب حلب لها قهندز ورستاق وهي طيبة الهواء عذبة الماء صحيحة التربة‏.‏

من عجائبها أنه لا يوجد بها عقرب أصلاً وترابها إذا ذر على العقرب ماتت وليس بها شيء من الهوام أصلاً‏.‏

عسقلان مدينة على ساحل بحر الشام من أعمال فلسطين كان يقال لها عروس الشام لحسنها‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان‏!‏ افتتحت في أيام عمر بن الخطاب على يد معاوية بن أبي سفيان ولم تزل في يد المسلمين إلى أن استولى الفرنج عليها سنة ثمان وأربعين وخمسمائة‏.‏

حكى بعض التجار أن الفرنج اتخذوا مركباً علوه قدر سور عسقلان وشحنوه رجالاً وسلاحاً واجروه حتى لصق بسور عسقلان ووثبوا منه على السور وملكوها قهراً وبقيت في يدهم خمساً وثلاثين سنة إلى أن استنقذها صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم عاد الفرنج وفتحوا عكة وساروا نحو عسقلان فخشي أن يتم عليها ما تم على عكة فخربها في سنة سبع وثمانين وخمسمائة‏.‏بها مشهد رأس الحسين عليه السلام وهو مشهد عظيم مبني بأعمدة الرخام‏.‏

وفيه ضريح الرأس والناس يتبركون به وهو مقصود من جميع النواحي وله نذر كثير‏.‏

عسكر مكرم مدينة مشهورة بأرض الاهواز بناها مكرم بن معاوية بن الحرث بن تميم وكانت قرية قديمة بعث الحجاج مكرم بن معاوية لقتال خورزاد لما عصى وتحصن بقلعة هناك فنزل مكرم هناك وطال حصاره فلم يزل يزيد بناء حتى صارت مدينة‏.‏

بها عقارب جرارات عظيمة يعالج بلذعها المفلوجون حكى الفقيه عبد الوهاب بن محمد العسكري أن مفلوجاً من أصفهان حمل إلى عسكر مكرم ليعالج بلذع العقارب فطرح على باب خان من الجانب الشرقي وقد فزعت وهجرت لكثرة ما بها من الجرارات فرأيت العليل طريحاً بها لا يمكنه أن ينقلب من جنب إلى جنب ولا أن يتكلم فبات بها ليلة فلما كان من الغد وجدوه جالساً يتكلم فصيحاً وقام ومشى‏.‏

فقال له الطبيب‏:‏ انتقل الآن من هذا المكان فإنه لذعتك واحدة ابرأتك وقام بحرارتها برد الفالج فإن لذعتك أخرى تقتلك‏!‏ فانتقل من هذا الموضع وصلح حاله‏.‏مدينة على ساحل بحر الشام من عمل الأردن من أحسن بلاد الساحل في أيامنا وأعمرها وفي الحديث‏:‏ طوبى لمن أرى عكة‏!‏ قال البشاري‏:‏ عكة مدينة حصينة على البحر كبيرة لم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وقد رأى مدينة صور واستدارة الحائط على مبناها فأحب أن يتخذ لعكة مثل ذلك فجمع صناع البلاد فقالوا‏:‏ لا نهتدي إلى البناء في الماء حتى ذكر عنده جدي أبو بكر البناء فأحضره وعرض عليه فاستهان ذلك وأمر بإحضار فلق من خشب الجميز غليظة نصبها على وجه الماء بقدر الحصن البري وبنى عليها الحجارة والشيد وجعل كلما بنى عليها خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء والفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها استقرت على الرمل تركها حولاً حتى أخذت قرارها ثم عاد فبنى عليها وكلما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله داخله فيه‏.‏

وقد ترك لها باباً وجعل عليه قنطرة‏.‏

فالمراكب في كل ليلة تدخل الميناء وتجر سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل مدينة صور فدفع ابن طولون إليه ألف دينار سوى الخلع والمراكب واسمه مكتوب على السور‏.‏

ولم تزل في أيدي المسلمين حتى أخذها الفرنج في سنة سبع وتسعين وأربعمائة وكان عليها زهر الدولة الجيوشي من قبل المصريين فقاتل أهل عكة حتى عجزوا‏.‏

فأخذها الفرنج قهراً وقتلوا وسلبوا ولم تزل في أيديهم إلى زمن صلاح الدين فافتتحها سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وشحنها بالسلاح والرجال والميرة فعاد الفرنج ونزلوا عليها فأتاهم صلاح الدين وأزاحهم عنها وقاتل الفرنج أشد القتال وقتل خلق كثير حول عكة وثارت روائح الجيف وتأذى المسلمون منها وظهرت فيهم الأمراض ومرض صلاح الدين أيضاً فأمر الأطباء بمفارقة ذلك الموضع ففارقه فجاء الفرنج وتمكنوا من حوالي عكة وخندقوا دونهم فكان الفرنج محيطين بالمدينة والخندق محيطاً بالفرنج فعاودهم صلاح الدين وأقام حذاءهم ثلاث سنين حتى استعادها الفرنج سنة سبع وثمانين وخمسمائة وقتلوا فيها المسلمين وهي في أيديهم إلى الآن‏.‏

بها عين البقر وهي بقرب عكة يزورها المسلمون واليهود والنصارى يقولون‏:‏ إن البقر الذي ظهر لآدم عليه السلام فحرث عليه خرج منها وعلى العين مشهد منسوب إلى علي بن أبي طالب‏.‏

 عين جارة

ضيعة من أعمال حلب قال أبو علي التنوخي‏:‏ إن بين عين جارة وبين الكوبة وهي قرية أخرى حجراً قائماً فربما وقع بين الضيعتين شر فيكيد أهل الكوبة بأن يلقوا ذلك الحجر القائم فكلما وقع الحجر خرج نساء عين جارة ظاهرات متبرجات لا يعقلن بأنفسهن في طلب الرجال ولا يستحين من غلبة الشهوة إلى أن يتبادر رجال عين جارة إلى الحجر يعيدونه إلى حاله فعند وهذه الضيع أقطعها سيف الدولة أحمد بن نصر البار وكان أحمد يتحدث بذلك وكتب أيضاً بخطه‏.‏

 عين الشمس

مدينة كانت بمصر محل سرير فرعون موسى بالجانب الغربي من النيل والآن انطمست عمارات فرعون بالرمل وهي بقرب الفسطاط‏.‏

قالوا‏:‏ بها قدت زليخا على يوسف القميص‏.‏

من عجائبها ما ذكر الحسن بن إبراهيم المصري أن بها عمودين مبنيين على وجه الأرض من غير أساس طول كل واحد منهما خمسون ذراعاً فيهما صورة إنسان على دابة وعلى رأسها شبه الصومعتين من نحاس فإذا جرى النيل رشحتا والماء يقطر منهما ولا تجاوزهما المشمس في الانتهاء فإذا نزلت أول دقيقة من الجدي وهو أقصر يوم في السنة انتهت إلى العمود الجنوبي وقطعت على قبة رأسه فإذا نزلت أول دقيقة من السرطان وهو أطول يوم في السنة انتهت إلى العمود الشمالي وقطعت على قبة رأسه ثم تطرد بينهما ذاهبة وجائية سائر السنة ويترشح منهما ماء وينزل إلى أسفلهما فينبت العوسج وغيره من الشجر‏.‏

ومن عجائب عين شمس أن يحمل منذ أول الإسلام حجارتها إلى غيرها من البلاد وما وبها زرع البلسان وليس في جميع الدنيا شجرته ويستخرجه منها دهنه‏.‏

قال أبو حامد الاندلسي‏:‏ بعين شمس تماثيل عملتها الجن لسليمان عليه السلام‏.‏

بها منارة من صخرة واحدة من رخام أحمر منقط بسواد ومربعه أكثر من مائة ذراع على رأسها غشاء من النحاس والوجه الذي إلى مطلع الشمس من ذلك الغشاء فيه صورة آدمي على سرير وعلى يمينه وشماله صورتان كأنهما خادمان ويترشح من تحت ذلك الغشاء أبداً ماء على تلك المنارة‏.‏

ينبت الطحلب الأخضر على موضع مسيله من تلك المنارة وينزل مقدار عشرة أذرع ولا يتعدى ذلك القدر ولا ينقطع نهاراً ولا ليلاً‏.‏

قال‏:‏ وكنت أرى لمعان الماء على تلك الصخرة وأتعجب من ذلك فإنه ليس بقرب تلك المدينة نهر ولا عين وإنما كان شربهم من الآبار والله أعلم بالأمور الخفية الغريان بناءان كالصومعتين كانا بأرض مصر بناهما بعض الفراعنة وأمر كل من يمر بهما أن يصلي لهما ومن لم يصل قتل‏.‏

إلا أنه تقضى له حاجتان إلا النجاة والملك ويعطى ما تمنى في الحال ثم يقتل ‏!‏ فأتى على ذلك برهة فأقبل قصار من افريقية معه حمار له وكدين فمر بهما ولم يصل فأخذه الحرس وجروه إلى الملك فقال له الملك‏:‏ ما منعك أن تصلي فقال‏:‏ أيها الملك اني رجل غريب من افريقية أحببت أن أكون في ظلك وأصيب في كنفك خيراً ولو عرفت لصليت لهما ألف ركعة‏!‏ فقال له‏:‏ تمن كل ما شئت غير النجاة من القتل والملك‏!‏ فأقبل القصار وأدبر وتضرع وخضع فما أفاده شيئاً فلما أيس من الخلاص قال‏:‏ أريد عشرة آلاف دينار وبريداً أميناً‏!‏ فأحضر فقال للبريد‏:‏ أريد أن تحمل هذا إلى افريقية وتسأل عن بيت فلان القصار وتسلمه إلى أهله‏!‏ قال له‏:‏ تمن الثانية‏!‏ قال‏:‏ اضرب كل واحد منكم بهذا الكدين ثلاث ضربات إحداها شديدة والثانية وسطاً والثالثة دون ذلك‏!‏ فمكث الملك طويلاً ثم قال لجلسائه‏:‏ ما ترون قالوا‏:‏ نرى أن لا تقطع سنة آبائك‏!‏ قالوا‏:‏ بمن تبدأ قال‏:‏ بالملك‏!‏ فنزل الملك عن السرير ورفع القصار الكدين وضرب به قفاه فأكبه على وجهه وغشي على الملك ثم رجع نفسه إليه وقال‏:‏ ليت شعري أي الضربات هذه والله إن كانت هينة وجاءت الوسطى لأموتن دون الشديدة‏!‏ ثم نظر إلى الحرس وقال‏:‏ يا أولاد الزنا كيف تزعمون انه لم يصل واني رأيته صلى خلوا سبيله واهدموا الغريين‏.‏

وبنى مثلهما المنذر بن امريء القيس بن ماء السماء بالكوفة وسيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏مدينة طيبة بين الشام ومصر على طرف رمال مصر قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان‏.‏

فتحها معاوية بن أبي سفيان في أيام عمر بن الخطاب‏.‏

وكفاها معجزاً انها مولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي‏.‏

ولد بها سنة خمسين ومائة‏.‏

انه كان يجعل الليل اثلاثاً‏:‏ ثلثاً لتحصيل العلم وثلثاً للعبادة وثلثاً للنوم‏.‏

وقال الربيع‏:‏ كان يختم في رمضان ستين ختمة كل ذلك في الصلاة‏.‏

وحكي أن عامل اليمن كتب إلى الرشيد‏:‏ إن ههنا شاباً قرشياً يميل إلى العلوية ويتعصب فكتب الرشيد إليه‏:‏ ابعثه إلي تحت الاستظهار‏.‏

فحمل إلى الرشيد‏.‏

حدث الفضل بن الربيع وقال‏:‏ أمرني الرشيد بإحضار الشافعي وكان غضبان عليه فأحضرته فدخل عليه وهو يقرأ شيئاً‏.‏

فلما رآه أكرمه وأمر له بعشرة آلاف درهم فدخل خائفاً وخرج آمناً‏.‏

فقلت‏:‏ يا أبا عبد الله أخبرني بم كنت تقرأ عند دخولك فقال‏:‏ إنها كلمات حدثني بها أنس بن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قرأها يوم الأحزاب فقلت‏:‏ اذكرها لي‏.‏

فقال‏:‏ اللهم اني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة وطارق الجن والانس إلا طارقاً يطرق بخير‏!‏ اللهم أنت عياذي فبك أعوذ وأنت ملاذي فبك ألوذ‏!‏ يا من ذلت له رقاب الجبابرة وخضعت له مقاليد الفراعنة أعوذ بجلال وجهك وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك ونسيان ذكرك والاضراب عن شكرك‏!‏ إلهي أنا في كنفك في ليلي ونهاري ونومي وقراري وظعني وأسفاري ذكرك شعاري وثناؤك دثاري‏!‏ لا إله إلا أنت تنزيهاً لأسمائك وتكريماً لسبحات وجهك الكريم‏!‏ أجرنا يا ربنا من خزيك ومن شر عقابك واضرب علينا سرادقات فضلك وقناسيات عذابك واعنا بخير منك وأدخلنا في حفظ عنايتك يا أرحم الراحمين‏!‏ وقد جربت هذه الكلمات لا يقولها خائف إلا آمنه الله تعالى وكان الرشيد يقربه ويكرمه لما عرف فضله وغزارة علمه‏.‏

وكان القاضي أبو يوسف ومحمد بن حسن رتبا عشرين مسألة وبعثاها على يد حدث من أصحابهما فقال الشافعي له‏:‏ من حملك على هذا فقال‏:‏ من أراد حكمها‏.‏

فقال‏:‏ متعنت أو متعلم فسكت الغلام فقال الشافعي‏:‏ هذا من تعنت أبي يوسف ومحمد‏!‏ ثم نظر فيها وحفظها ورد الدرج إلى الحدث فأخبر الخليفة بذلك فأحضر أبا يوسف ومحمداً وسألهما عن حال الدرج فاعترفا به فأحضر الشافعي وقال‏:‏ بين أحكامها ولك الفضل‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين قل لهما يسألاني عن واحدة واحدة ويسمعان جوابها بتوفيق الله‏.‏

فعجزا عن استحضارها فقال الشافعي‏:‏ أنا أكفيهما‏.‏

سألاني عن رجل ابق له عبد فقال‏:‏ هو حر ان طعمت طعاماً حتى أجده كيف الخلاص من ذلك الجواب‏:‏ يهبه لبعض أولاده ويطعم حتى لا يعتق‏.‏

وسألاني عن رجلين كانا فوق سطح فوقع أحدهما من السطح ومات فحرمت على الآخر امرأته‏.‏

الجواب‏:‏ ان امرأة الحي كانت أمة للميت وكان الزوج بعض ورثته فصارت الأمة ملكاً للزوج بحق الارث فحرمت عليه‏.‏

وسألاني عن رجلين خطبا امرأة في حالة واحدة وانها لم تحل لأحدهما وحلت للآخر‏.‏

الجواب‏:‏ لأحد الرجلين أربع وهي خامسة فلا تحل له والآخر ما كان كذلك فحلت له‏.‏

وسألاني عن رجل ذبح شاة في منزله وخرج لحاجة ورجع قال لأهله‏:‏ كلوا فإنها حرمت علي فقال له أهله‏:‏ ونحن أيضاً قد حرمت علينا‏.‏

الجواب‏:‏ كان الرجل مجوسياً أو وثنياً فذبح شاة وخرج لحاجة وأسلم وأهله أيضاً أسلموا فقال لأهله‏:‏ كلوا فإني أسلمت لا تحل لي ذبيحة المجوس ‏!‏ فقال له أهله‏:‏ نحن أيضاً قد أسلمنا وحرمت علينا أيضاً‏.‏

وسألاني عن امرأة تزوجت في شهر واحد ثلاثة أزواج كل ذلك حلال غير حرام‏.‏

الجواب‏:‏ إن هذه المرأة طلقها زوجها وهي حامل فوضعت‏.‏

انقضت عدتها بالوضع فتزوجت ثم ان هذا الزوج خالعها قبل الدخول فلا عدة عليها فتزوج بها آخر وهكذا ان أردت رابعاً وخامساً وسألاني عن رجل حرمت عليه امرأته سنة من غير حنث أو طلاق أو عدة‏.‏

الجواب‏:‏ هذا الرجل وامرأته كانا محرمين فلم يدركا الحج فلم تزل امرأته تحرم عليه إلى العام القابل فإذا فرغت من الحج في العام المقبل حلت لزوجها‏.‏

وسألا عن امرأتين لقيتا غلامين فقالتا‏:‏ مرحباً بابنينا وابني زوجينا وهما زوجانا‏!‏ الجواب‏:‏ إن للمرأتين ابنين وكل واحدة منهما مزوجة بابن صاحبتها فكان الغلامان ابنيهما وابني زوجيهما وهما زوجاهما‏.‏

وسألا عن رجلين شربا الخمر فوجب الحد على أحدهما دون الآخر‏.‏

الجواب‏:‏ كان أحدهما غير موصوف بأوصاف وجوب الحدث كالعقل والبلوغ‏.‏

وسألا عن مسلمين سجدا لغير الله وهما مطيعان في هذه السجدة‏.‏

الجواب‏:‏ هذه سجدة الملائكة لآدم عليه السلام‏.‏

وسألا عن رجل شرب من كوز بعض الماء وحرم الباقي عليه‏.‏

الجواب‏:‏ انه رعف فوقع في باقيه شيء من الدم فحرم عليه‏.‏

وسألا عن امرأة ادعت البكارة وزوجها يدعي أنه أصابها فكيف السبيل إلى تحقيق هذا الأمر الجواب‏:‏ تؤمر القابلة بأن تحملها بيضة فإن غابت البيضة كذبت المرأة وإن لم تغب صدقت‏.‏وسألا عن رجل سلم إلى زوجته كيساً وقال لها‏:‏ أنت طالق إن فتحته أو فتقته أو خرقته أو حرقته‏!‏ وأنت طالق إن لم تفرغيه‏!‏ الجواب‏:‏ يكون في الكيس سكر أو ملح أو ما شابههما فيوضع في الماء الحار ليذوب ويفرغ الكيس‏.‏

وسألا عن امرأة قبلت غلاماً وقالت‏:‏ فديت من أمه ولدت أمه وأنا امرأة أبيه‏.‏

الجواب‏:‏ انها أمه‏.‏

وسألا عن خمسة نفر زنوا بامرأة‏:‏ فعلى أحدهم القتل وعلى الثاني الرجم وعلى الثالث الحد وعلى الرابع نصف الحد وعلى الخامس لا يجب شيء‏.‏

الجواب‏:‏ الأول مشرك زنا بامرأة مسلمة يجب قتله والثاني محصن فعليه الرجم والثالث بكر فعليه الحد والرابع مملوك عليه نصف الحد والخامس مجنون لا شيء عليه‏.‏

وسألا عن امرأة قهرت مملوكاً على وطئها وهو كاره لوطئها فما يجب عليهما الجواب‏:‏ إن كان المملوك يخشى أن تقتله أو تضربه أو تحبسه فلا شيء عليه وإلا فعليه نصف الحد‏.‏

وأما مولاته إن كانت محصنة فعليها الرجم وإلا فالحد ويباع المملوك عليها‏.‏

وسألا عن رجل يصلي بقوم فسلم عن يمينه طلقت امرأته وعن يساره بطلت صلاته ونظر إلى السماء فوجب عليه ألف درهم‏.‏

الجواب‏:‏ لما سلم عن يمينه رأى رجلاً كان زوج امرأته وكان غائباً فثبت عند القاضي موته فتزوج بامرأته هذا المصلي فرآه وقد قدم من سفره فحرمت عليه زوجته‏.‏

ثم سلم عن شماله فرأى على ثوبه دماً فلزم عليه إعادة الصلاة ونظر إلى السماء فرأى الهلال فحل عليه الدين المؤجل إلى رأس الشهر‏.‏

وسألا عن رجل ضرب رأس رجل بعصاً وادعى المضروب ذهاب إحدى عينيه وتجفيف الخياشيم والخرس من تلك الضربة فيوميء بذلك كله إيماء أو يكتب كتابة‏.‏

الجواب‏:‏ يقام في مقابل الشمس فإن لم يطرق رأسه فهو صادق ويشم الحراق فإن لم ينفعل فهو صادق ويغرز لسانه فإن خرج منه دم فهو صادق‏.‏

وسألا عن إمام يصلي بقوم وكان وراءه أربعة نفر فدخل المسجد رجل فصلى عن يمين الإمام فلما سلم الإمام عن يمينه رآه الرجل الداخل فله قتل الإمام وأخذ امرأته وجلد الجماعة وهدم المسجد‏.‏

الجواب‏:‏ ان الداخل أمير تلك البقعة وسافر وخلف أخاً مقامه في البلد فقتله المصلي وشهد الجماعة أن زوجة الأمير في نكاح القاتل وأخذ دار الأمير غصباً جعلها مسجداً فلما سلم رآه الأمير فعرفه فله قتله وأخذ منكوحته منه وجلد الذين شهدوا زوراً ورد المسجد داراً كما كانت‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ لله درك يا ابن ادريس ما أفطنك‏!‏ وأمر له بألف دينار وخلعة فخرج الشافعي من مجلس الخليفة يفرق الدنانير في الطريق قبضة قبضة فلما انتهى إلى منزله لم يبق معه إلا قبضة واحدة أعطاها لغلامه‏.‏

وحكى أبو عبد الله نصر المروزي قال‏:‏ كنت قاعداً في مسجد رسول الله عليه السلام إذ أغفيت إغفاءة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له‏:‏ اكتب يا رسول الله رأي أبي حنيفة قال‏:‏ لا‏!‏ قلت‏:‏ اكتب رأي مالك قال‏:‏ اكتب ما وافق حديثي‏!‏ قلت‏:‏ اكتب رأي الشافعي طأطأ رأسه شبه الغضبان وقال‏:‏ هو رد على من خالف سنتي‏!‏ فخرجت في إثر هذه الرؤيا إلى مصر وكتبت كتب الشافعي‏.‏

وقال الربيع بن سليمان‏:‏ قال لي الشافعي‏:‏ رضى الناس غاية لا تدرك فعليك بما يصلحك فإنه لا سبيل إلى رضاهم‏.‏

واعلم أن من تعلم القرآن جل عند الناس ومن تعلم الحديث قويت حجته ومن تعلم النحو هيب ومن تعلم العربية رق طبعه ومن تعلم الحساب جزل رأيه ومن تعلم الفقه نبل قدره ومن لم يصن لم ينفعه علمه وملاك ذلك كله التقوى‏.‏

قال محمد بن المنصور‏:‏ قرأت في كتاب طاهر بن محمد النيسابوري بخط الشافعي‏:‏ إنّ امرأً وجد اليسار فلم يصب حمداً ولا شكراً لغير موفّق الجدّ يدني كلّ شيءٍ شاسعٍ والجدّ يفتح كلّ بابٍ مغلق وإذا سمعت بأنّ محروماً أتى ماءً ليشربه فغاض فحقّق ومن الدّليل على القضاء وكونه بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق قال المزني‏:‏ دخلت على الشافعي في مرض موته فقلت له‏:‏ كيف أصبحت قال‏:‏ أصبحت في الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ولكأس المنية شارباً ولسوء أعمالي ملاقياً وعلى الله وارداً فلا أدري أصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول‏:‏ ولمّا قسا قلبي وضاقت مسامعي جعلت الرّجا مني لعفوك سلّما تعاظمني ذنبي فلمّا قرنته بعفوك ربّي كان عفوك أعظما وما زلت ذا عفوٍ عن الذّنب لم تزل بجودك تعفو منّةً وتكرّما ذهب إلى جوار الحق سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة‏.‏

 الغوطة

الكورة التي قصبتها دمشق‏.‏

وهي كثيرة المياه نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار مونقة الأزهار ملتفة الأغصان خضرة الجنان استدارتها ثمانية عشر ميلاً كلها بساتين وقصور‏.‏

تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها‏.‏

ومياهها خارجة من تلك الجبال وتمتد في الغوطة عدة أنهر وهي أنزه بلاد الله وأحسنها قال أبو بكر الخوارزمي‏:‏ جنان الدنيا أربع‏:‏ غوطة دمشق وصغد سمرقند وشعب بوان وجزيرة الأبلة وقد رأيتها كلها فأحسنها غوطة دمشق‏!‏ فارس الناحية المشهورة التي يحيط من شرقها كرمان ومن غربها خوزستان ومن شمالها مفازة خراسان ومن جنوبها البحر سميت بفارس بن الأشور ابن سام بن نوح عليه السلام بها مواضع لا تنبت الفواكه لشدة بردها كرستاق اصطخر وبها مواضع لا يسكنها الطير لشدة حرها كرستاق الاغرسان‏.‏

وأما أهلها فذكروا أنهم من نسل فارس بن طهمورث سكان الموضع الذي يسمى ايرانشهر وهو وسط الاقليم الثالث والرابع والخامس ما بين نهر بلخ إلى منتى اذربيجان وارمينية إلى القادسية وإلى بحر فارس‏.‏

وهذه الحدود هي صفوة الأراضي وأشرفها لتوسطها في قلب الأقاليم وبعدها عما يتأذى به أهل المشرق والمغرب والجنوب والشمال وأهلها أصحاب العقول الصحيحة والآراء الراجحة والأبدان السليمة والشمائل الظريفة والبراعة في كل صناعة فلذلك تراهم أحسن الناس وجوهاً وأصحهم أبداناً وأحسنهم ملبوساً وأعذبهم أخلاقاً وأعرفهم بتدبير الأمور‏!‏ جاء في التواريخ‏:‏ ان الفرس ملكوا أمر العالم أربعة آلاف سنة‏:‏ كان أولهم كيومرث وآخرهم يزدجرد بن شهريار الذي قتل في وقعة عمر بن الخطاب بمرو فعمروا البلاد وأنعشوا العباد‏.‏

وجاء في الخبر‏:‏ ان الله تعالى أوحى إلى داود أن يأمر قومه أن لا يسبوا العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي‏.‏

وحسن سيرة ملوك الفرس مدون في كتب العرب والعجم ولا يخفى أن المدن العظام القديمة من بنائهم وأكثرها مسماة بأسمائهم‏.‏

وأخبار عدلهم وإحسانهم في الدنيا سائرة وآثار عماراتهم إلى الآن ظاهرة‏.‏

زعم الفرس أن فيهم عشرة أنفس لم يوجد في شيء من الأصناف مثلهم ولا في الفرس أيضاً‏:‏ أولهم افريدون بن كيقباذ بن جمشيد ملك الأرض كلها وملأها من العدل والإحسان بعدما كانت مملوءة من العسف والجور من ظلم الضحاك بيوراسب وما أخذه الضحاك من أموال الناس ردها إلى أصحابها وما لم يجد له صاحباً وقفه على المساكين وذكر بعض النساب أن افريدون هو ذو القرنين الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز لأنه ملك المشرق والمغرب وأمر بعبادة الله تعالى وكان ذا عدل وإحسان‏.‏

وثانيهم اسكندر بن دارا بن بهمن كان ملكاً عظيماً حكيماً حصل العلوم وعرف علم الخواص وتلمذ لارسطاطاليس واستوزره وكان يعمل برأيه وانقاد له ملوك الروم والصين والترك والهند ومات وعمره اثنتان وثلاثون سنة وسبعة أشهر‏.‏

وثالثهم أنوشروان بن قباذ كسرى الخير كثرت جنوده وعظمت مملكته وهادنته ملوك الروم والصين والهند والخزر وروي عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ولدت في زمن الملك العادل‏!‏ ومن عدله ما ذكر أنه علق سلسلة فيها جرس على بابه ليحركها المظلوم ليعلم الملك حضوره من غير واسطة فأتى عليها سبع سنين ما حركت‏.‏

ورابعهم بهرام بن يزدجرد ويقال له بهرام جور‏.‏

كان من أحذق الناس بالرمي لم يعرف رام مثله‏.‏

ذكر أنه خرج متصيداً وكان معه جارية من أحظى جواريه فظهر لهم سرب من الظباء فقال لها‏:‏ كيف تريدين أن أرمي ظبية منها قالت‏:‏ أريد أن تلصق ظلفها بأذنها‏!‏ فأخذ الجلاهق ورمى بندقة أصابت أذنها فرفعت ظلفها تحك بها أذنها فرمى نشابة وخاط ظلفها بأذنها‏.‏

وخامسهم رستم بن زال الشديد ذكروا أنه لم يعرف فارس مثله‏.‏

كان من أمره أنه إذا لاقى في ألف فارس ألفين غلبهم وإذا لاقى في خمسة آلاف فارس عشرة آلاف غلبهم وإذا دعا إلى البراز وخرج إليه القرن يرفعه برمحه من ظهر الفرس ويرميه إلى الأرض‏.‏وسادسهم جاماسب المنجم‏.‏

كان وزيراً لكشتاسف بن لهراسب لم يعرف منجم مثله حكم على القرانات وأخبر بالحوادث التي تحدث وأخبر بخروج موسى وعيسى ونبينا عليه السلام وزوال الملة المجوسية وخروج الترك ونهبهم وقتلهم وخروج شخص يقهرهم وكثير من الحوادث بعدهم كل ذلك في كتاب يسمى أحكام جاماسب بلعجمية‏.‏

وله بعد موته خاصية عجيبة وهي ان قبره على تل بأرض فارس وقدام التل نهر فمن زار قبره من الولاة راكباً يعزل وأكثر الناس عرفوا تلك الخاصية فإذا وصلوا إلى ذلك النهر نزلوا‏.‏

وسابعهم بزرجمهر بن بحتكان كان وزير الأكاسرة وكان ذا علم وعقل ورأي وفطنة كان بالغاً في الحكم الخطابية ولما وضع الهند الشطرنج بعثوا به هدية إلى كسرى ولم يذكروا كيفية اللعب به فاستخرجه بزرجمهر ووضع في مقابلته النرد وبعث به إلى الهند‏.‏

وثامنهم بلهبد المغني فاق جميع الناس في الغناء وكان مغنياً لكسرى ابرويز فإذا أراد أحد أن يعرض أمراً على كسرى وخاف غضبه ألقى ذلك الأمر إلى بلهبد وبذل له حتى جعل لذلك المغني شعراً وصوتاً ويغني به بين يديه فعرف كسرى ذلك الأمر‏.‏

وتاسعهم صانع شبديز وسيأتي ذكره ودقة صنعته في قرميسين في الإقليم الرابع‏.‏

وعاشرهم فرهاذ الذي تحت ساقية قصر شيرين وهي باقية إلى الآن‏.‏

وأراد أن ينقب جبل وبأرض فارس جمع يقال لهم آل عمارة لهم مملكة عريضة على سيف البحر‏.‏

وهم من نسل جلندى بن كركر وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه المجيد‏:‏ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً‏.‏

زعموا أن ملكهم كان قبل موسى عليه السلام وإلى زماننا هذا لهم بأس ومنعة وارصاد البحر وعشور السفن‏.‏

فرغانة ناحية مشتملة على بلاد كثيرة بعد ما وراء النهر متاخمة لبلاد الترك‏.‏

أهلها من أتم الناس أمانة وديانة على مذهب أبي حنيفة وأحسن الناس صورة‏!‏ كانت ذات خيرات وغلات وثمرات وخربت في محاربة خوارزمشاه محمد والخطأ لأنها كانت على ممر العساكر فخربت تلك البلاد الحسنة وفارقها أهلها قبل خروج التتر إلى ما وراء النهر وخراسان‏.‏

وسمعت أن من عاداتهم قطع الآذان حزناً على موت الأكابر‏.‏

ينسب إليها الشيخ عمر الملقب برشيد الدين الفرغاني رأيته كان شيخاً فاضلاً كاملاً مجمع الفضائل الأدب والفقه والأصول والحكمة والكلام البليغ واللفظ الفصيح والخط الحسن والخلق الطيب والتواضع‏.‏

كان مدرساً بسنجار تأذى من الملك الأشرف فارق سنجار فلم يلتفت إلى مفارقته فطلبه المستنصر لتدريس المستنصرية‏.‏

فلما ولاه التدريس بعث صاحب الروم بطلبه وجاء رسول من عنده إلى بغداد طالباً له فقال المستنصر‏:‏ اخبروا الملك انه مدرسنا فإن طلبه بعد ذلك بعثناه إليه‏!‏ قبض في سنة إحدى وثلاثين وستمائة‏.‏

 الفسطاط

هي المدينة المشهورة بمصر بناها عمرو بن العاص قيل‏:‏ انه لما فتح مصر عزم الإسكندرية في سنة عشرين وأمر بفسطاطه أن يقوض فإذا يمامة قد باضت في أعلاه فقال‏:‏ تحرمت بجوارنا اقروا الفسطاط حتى ينقف وتطير فراخها ووكل به من يحفظه ومضى نحو الإسكندرية وفتحها فلما فرغ من القتال قال لأصحابه‏:‏ أين تريدون تنزلون قالوا‏:‏ يا أيها الأمير نرجع إلى فسطاطك لنكون على ماء وصحراء‏!‏ فرجعوا إليها وخط كل قوم بها خطأ بنوا فيها وسمي بالفسطاط‏.‏

وبنى عمرو بن العاص الجامع في سنة إحدى وعشرين يقال‏:‏ قام على اقامة قبلته ثمانون صحابياً منهم‏:‏ الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة ابن الصامت وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري‏.‏

وهذا الجامع باق في زماننا‏.‏

كتب القرآن جميعه على ألواح من الرخام الأبيض بخط كوفي بين في حيطانه من أعلاها إلى أسفلها وجعل أعشار القرآن وآياته وأعداد السور بالذهب واللازورد فيقرأ الإنسان جميع القرآن منها وهو قاعد ثم استولى الفرنج عليها وخربوها‏.‏

فلما كانت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة قدم صلاح الدين وأمر ببناء سور على الفسطاط والقاهرة فذرع دورتها فكانت فرسخين ونصفاً وكان بها طلسم للتماسيح قال أبو الريحان الخوارزمي‏:‏ كان بجبال الفسطاط طلسم للتماسيح وكانت لا تستطيع الإضرار حولها وكان إذا بلغ حولها استلقى وانقلب على ظهره وكان يلعب به الصبيان فكسر ذلك الطلسم وبطل حكمه‏.‏

وبالفسطاط محلة تسمى الجزيرة لأن النيل إذا زاد أحاط الماء بها وحال بينها وبين معظم الفسطاط فاستقلت هي بنفسها‏.‏

وبها أسواق وجامع وبساتين وهي من متنزهات مصر قال الساعاتي الدمشقي‏:‏ ما أنس لا أنس الجزيرة ملعباً للأنس تألفها الحسان الخرّد يجري النّسيم بغصنها وغديرها فيهزّ رمحٌ أو يسلّ مهنّد ويريك دمع الطّلّ كلّ سفيقةٍ كالخدّ دبّ به عذارٌ أسود قرية من قرى شيراز بناها فيروز ملك الفرس فيما أظنه‏.‏

ينسب إليها الشيخ الإمام أبو إسحق إبراهيم الفيروزابادي‏.‏

كان عالماً ورعاً زاهداً له تصانيف في الفقه‏.‏

ولما صنف كتاب التنبيه صلى بكل مسألة فيها ركعتين ودعا لمن يشتغل به‏.‏

وهو كتاب مبارك سهل الضبط والحفظ‏.‏

ومن ورعه انه سلم إلى شخص رغيفين وأمره أن يشتري بكل واحدة حاجة فاشتبه على الوكيل فاشترى كيف اتفق فعلم الشيخ بذلك ودفعهما وقال‏:‏ خالفت الوكالة لا يحل المشتري‏.‏

وذكر أنه كان يمشي مع أصحابه فكان على طريقهم كلب فصاح على الكلب بعض أصحابه فقال الشيخ‏:‏ أليست الطريق مشتركة بيننا وحكي انه لما بنى نظام الملك المدرسة النظامية ببغداد طلب الشيخ للتدريس فسمع الشيخ من صبي قال‏:‏ ان أرضها مغصوب‏!‏ فامتنع عن التدريس حتى بينوا له أن الأمر ليس كذلك فقبلها‏.‏

وحكي انه كتب جواب مسألة فعرض على ابن الصباغ صاحب الشامل فقال للمستفتي‏:‏ ارجع إلى الشيخ وقل له انظر فيها مرة أخرى فلما رآه الشيخ كتب‏:‏ الحق ما قاله الشيخ وأبو إسحق مخطيء‏.‏

فارق الدنيا ولم يترك ديناراً ولا درهماً سنة ست وسبعين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة‏.‏

 الفيوم

ناحية في غربي مصر في منخفض من الأرض والنيل مشرف عليها‏.‏

ذكر ان يوسف الصديق عليه السلام لما ولي مصر ورأى ما لقي أهلها من القحط وكان الفيوم يومئذ بطيحة تجتمع فيها فضول ماء الصعيد أوحى الله تعالى إليه أن احفر ثلاثة خلج‏:‏ خليجاً من أعلى الصعيد وخليجاً شرقياً وخليجاً غربياً كل واحد من موضع كذا إلى موضع كذا‏.‏

فأمر يوسف العمال بها فخرج ماؤها من الخليج الشرقي وانصب في النيل وخرج من الخليج الغربي وانصب في الصحراء ولم يبق في الجوبة ماء ثم أمر الفعلة بقطع ما كان بها من القصب والطرفاء فصارت الجوبة أرضاً نفية ثم ارتفع ماء النيل فدخل خليجها فسقاها من خليج أعلى الصعيد فصارت لجة من النيل كل ذلك في سبعين يوماً‏.‏

فخرج وأصحابه فرأوا ذلك وقالوا‏:‏ هذا عمل ألف يوم فسمي الموضع الفيوم‏.‏

ثم صارت تزرع كما تزرع أرض مصر‏.‏

بنى بالفيوم ثلاثمائة وستين قرية وقدر أن كل قرية تكفي أهل مصر يوماً واحداً على أن النيل إن لم يزد اكتفى أهلها بما يحصل من زراعتها وجرى الأمر على هذا‏.‏

وزرعوا بها النخيل والأشجار فصار أكثرها حدائق فتعجب الناس مما فعل يوسف الصديق عليه السلام فقال للملك‏:‏ عندي من الحكمة غير ما رأيت انزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت وأمر كل أهل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر فإذا فرغوا من البناء صير لكل قرية من الماء قدر ما يصير لها من الأرض لا زائداً ولا ناقصاً‏.‏

صير لكل قرية شرباً في زمان لا ينالهم الماء إلا فيه وصير مطأطئاً للمرتفع ومرتفعاً للمطأطيء بأوقات من الساعات في الليل والنهار وصير لها قدراً معلوماً فلا يأخذ أحد دون حقه ولا زائداً عليه فقال له فرعون‏:‏ هذا من ملكوت السماء فقال‏:‏ نعم‏.‏

فلما فرغ منها تعلم الناس وزن الأرض والماء واتخاذ موازينها‏.‏

وحدث يومئذ هندسة استخراج المياه والله الموفق‏.‏

 القادسية

بليدة بقرب الكوفة على سابلة الحجاج‏.‏

سميت بقادس هراة وهو دهقانها بعثه كسرى أبرويز إلى ذلك الموضع لدفع العرب قال هشام عن ابيه‏:‏ ان ثمانية آلاف من ترك الخزر ضيقوا على كسرى بلاده من كثرة النهب والفساد‏.‏

فبعث دهقان هراة إلى كسرى‏:‏ إن كفيتك أمر هؤلاء تعطيني ما احتكم قال‏:‏ نعم‏.‏

فبعث الدهقان إلى أهل القرى يقول‏:‏ إني سأنزل عليك الترك فافعلوا بهم ما آمركم وبعث إلى الترك وقال‏:‏ تشتون في أرضي العام‏.‏

فنزلوا عنده‏.‏

بعث إلى كل قرية طائفة وقال‏:‏ ليذبح كل رجل منكم نزيله في الليلة الفلانية ويأتني بسبلته‏!‏ فذبحوهم عن آخرهم وذهبوا إليه بسبلاتهم فنظمها في خيوط وبعث بها إلى كسرى فبعث إليه كسرى شكر سعيه وقال‏:‏ اقدم إلي واحتكم‏!‏ فقدم إليه وقال‏:‏ أريد أن تجعل لي سريراً مثل سريرك وتاجاً مثل تاجك وتنادمني من غدوة إلى الليل‏.‏

فاستدل كسرى باحتكامه على ركاكة عقله ففعل ذلك ثم قال‏:‏ لا ترى هراة أبداً فيجلس ويتحدث بما جرى وأنزله هذا الموضع فبنى هذه البلدة وسكنها‏.‏

 القاهرة

هي المدينة المشهورة بجنب الفسطاط بمصر يجمعها سور واحد‏.‏

وهي اليوم المدينة العظمى وبها دار الملك أحدثها جوهر غلام المعز سعد بن إسماعيل الملقب بالمنصور‏.‏

وهي أجل مدينة بمصر لاجتماع أسباب الخيرات منها تجلب الطرائف المنسوبة إلى مصر‏.‏

بها قصران عظيمان يقصر الوصف دونهما عن يمين السوق وشماله وليس في شيء من البلاد مثلهما‏.‏

كان يسكنها ملوكها العلوية الذين انقرضوا وبها موضع يسمى الفراقة‏.‏

وبها أبنية جليلة ومواضع واسعة وسوق قائم ومشاهد للصالحين‏.‏

وهي من متنزهات أهل القاهرة والفسطاط سيما في المواسم‏.‏

وبها مدرسة الشافعي وفيها قبره‏.‏

وبالقرافة باب للمحلة التي بها مدرسة الشافعي في عتبته حجر كبير إذا احتبس بول الدابة تمشي على ذلك الحجر مراراً فينفتح بولها‏.‏

وبظاهر القرافة مشهد صخرة موسى عليه السلام وفيه اختفى من فرعون لما خافه وعلى باب درب الشعارين مسجد ذكر ان يوسف الصديق عليه السلام بيع هناك‏.‏

قبرس جزيرة بقرب طرسوس دورها مسيرة ستة عشر يوماً قال أحمد بن محمد بن عمر العذري‏:‏ يجلب منها اللادن الجيد ولا يجمع في غيرها والذي يجمع من الشجر يحمل إلى ملك القسطنطينية لأنه يعادل العود الطيب وسائر ما يجمع على وجه الأرض هو الذي يستعمله الناس‏.‏

والزاج القبرسي مشهور كثير المنافع جداً عزيز الوجود أفضل الزاجات كلها‏.‏

 قرية صاهك

من كورة ارجان‏.‏بها بئر ذكر ان أهلها امتحنوا قعرها بالمثقلات والأرسان فلم يقفوا منها على عمق يغور الدهر كله منها ماء بقدر ما يدير الرحى يسقي تلك القرية‏.‏

قرية عبد الرحمن بأرض فارس‏.‏

عمقها قامات كثيرة جافة القعر عامة السنة حتى إذا كان الوقت المعلوم عندهم في السنة نبع ماء يرتفع على وجه الأرض قدر يدير الرحى ويجري وينتفع به في سقي الزروع ثم يغور‏.‏

قفط مدينة بأرض مصر بالصعيد الأعلى كثيرة البساتين والمزارع وبها النخل والاترج والليمون قال صاحب عجائب الأخبار‏:‏ بها بيت عجيب تحت سقفه ثلاثمائة وستون عموداً كل عمود قطعة واحدة من حجارة على رأس العمود صورة رجل عليه قلنسوة والسقف حجارة كله قد وضعت أطراف الحجر على زواياه وعلى أرباع رؤوس الأساطين ثم ألحمت الحاماً لا يرى فيها فصل يحسبها الناظر قطعة واحدة‏.‏

يقولون‏:‏ إن تلك الصور صور أهل تلك الدولة وعلى كل عمود كتابة لا يدرى ما هي ولا يحسن أحد في زماننا قراءتها‏.‏

 قلعة النجم

قلعة حصينة مطلة على الفرات وعندها جسر الفرات يعبر عليه قوافل الشام والعراق والروم وتحتها ربض به طائفة يتعاطون أنواع القمار فإذا رأوا غريباً أظهروا أنهم مرمدون ويلعبون لعباً دوناً ليظن الغريب أنهم في طبقة نازلة يطمع فيهم ويخرجون المال إذا قمروا من غير اكتراث فتتوق نفس الغريب أن يلعب معهم فكلما جلس لا يتركونه يقوم ومعه شيء حتى سراويله وربما استرهنوا نفسه ومنعوه من الذهاب حتى يأتي أصحابه ويؤدوا عنه ويخلصوه‏.‏

القيروان مدينة عظيمة بافريقية مصرت في أيام معاوية وذلك انه لما ولي عقبة بن نافع القرشي افريقية ذهب إليها وفتحها وأسلم على يده كثير من البربر فجمع عقبة أصحابه وقال‏:‏ ان أهل افريقية قوم إذا غصبهم السيف أسلموا وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى دينهم ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأياً لكن رأيت أن أبني ههنا مدينة يسكنها المسلمون‏.‏

فجاؤوا إلى موضع القيروان وهي أجمة عظيمة وغيضة لا تشقها الحيات من تشابك شجرها فقالوا‏:‏ هذه غيضة كثيرة السباع والهوام وكان عقبة مستجاب الدعوة فجمع من كان في عسكره من الصحابة وكانوا ثمانية عشر نفساً ونادى‏:‏ أيتها السباع والحشرات نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنا فإنا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه‏!‏ فرأى الناس ذلك اليوم عجباً لم يروه قبل ذلك وكان السبع يحمل أشباله والذئب اجراءه والحية أولادها وهي خارجة سرباً سرباً فحمل ذلك كثيراً من البربر على الإسلام‏.‏

ثم بنى المدينة فاستقامت في سنة خمس وخمسين‏.‏

ذكر الجيهاني ان بالقيروان أسطوانتين لا يردى جوهرهما ما هو وهما تترشحان ماء كل يوم جمعة قبل طلوع الشمس وموضع العجب كونه يوم الجمعة‏.‏

وقد قيل‏:‏ ان ملوك الروم طلبوهما بثمن بالغ فقال أهل القيروان‏:‏ لا نخرج أعجوبة من العجائب من بيت الله إلى بيت الشيطان‏!‏ قيس جزيرة في بحر فارس دورها أربعة فراسخ ومدينتها حسنة مليحة المنظر ذات سور وأبواب وبساتين وعمارات وهي مرفأ مراكب الهند والفرس ومنقلب التجارة ومتجر العرب والعجم‏.‏

شربها من الآبار ولخواص الناس صهاريج‏.‏

وحولها جزائر كلها لصاحب قيس لكنها في الصيف أشبه شيء ببيت حمام حار شديدة السخونة وفي هذا الوقت يطول جلد خصي الناس حتى يصير ذراعاً فيرى كل أحد يتخذ كيساً فيه عفص مسحوق وقشر رمان ويترك خصيتيه فيه حتى لا تطول صفته‏.‏

يجلب منها كل أعجوبة وقعت في بلاد الهند‏.‏

وكان ملكها في قوم ورثوها إلى أن ملك منهم ظالم يظلمهم فخامروه وبعثوا إلى صاحب هرمز فطلبوه فجاء الهرمزي ملكها وكان يظلم أفحش من ظلم القيسي فخامروه وبعثوا إلى صاحب شيراز فطلبوه فجهز عسكراً بعثهم في مراكب وخرج عسكر الهرمزي لقتالهم في مراكب فنزلوا في سيرهم على نشز للاستراحة فوصلت مراكب الفرس وهم على النشز فاضرموا النار في مراكب الهرامزة وساروا نحو قيس وملكوها بأسهل طريق وكانت الهرامزة أقوى من الفرس وأعرف بقتال البحر إلا أن جدهم قعد بهم‏.‏

 كابل

مدينة مشهورة بأرض الهند‏.‏

بها ما يوجد من الجروم إلا النخل ويقع بنواحيها الثلج ولا يقع بها‏.‏

وأهلها مسلمون وكفار‏.‏

وزعمت الهند ان الشاهية لا تنعقد إلا بكابل وإن كان بغيرها فلا يصير واجب الطاعة حتى يصير إليها ويعقد له الملك هنا‏.‏

يجلب منها النوق البخاتي وهي أحسن أنواع الإبل‏.‏

 كاريان

بليدة بأرض فارس بها بيت نار معظم عند المجوس تحمل ناره إلى بيوت النار في الآفاق‏.‏

قال الاصطخري‏:‏ من القلاع التي لم تفتح قط عنوةً قلعة كاريان وهي على جبل من طين حوصرت كازرون مدينة بفارس عامرة حصينة كثيرة الغلات وافرة الثمرات كلها قصور وبساتين ونخيل ممتدة عن يمين وشمال قال الاصطخري‏:‏ ليس بأرض فارس أصح هواءً وتربةً من كازرون‏.‏

يقال لها دمياط العجم لأنه تنسج بها ثياب الكتان على عمل القصب والشطوى وإن لم يكن رقاعاً‏.‏

ومعظم دورها والجامع على تل والأسواق وقصور التجار تحت التل‏.‏

بنى عضد الدولة بها داراً جمع فيها السماسرة كان دخلها كل يوم عشرة آلاف درهم‏.‏

بها تمر يقال له الجيلان لا يوجد في غير كازرون يحمل إلى العراق للهدايا مع كثرة تمر العراق‏.‏

كدال ولاية في جبال افريقية‏.‏

ذكر بعض أهلها أن الحنطة بها تريع ريعاً مفرطاً حتى ان أحدهم ربما يزرع مكوكاً يحصل منه خمسمائة مكوك وأكثر‏.‏

كرد فناخسرو مدينة بناها عضد الدولة بقرب شيراز وساق إليها نهراً كبيراً من مسيرة يوم أنفق عليه مالاً عظيماً وجعل إلى جنبها بستاناً سعته نحو فرسخ‏.‏

ولما فرغ من شق النهر ووصول الماء إليها كان لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاثمائة جعل هذا اليوم عيداً في كل سنة يجتمع فيه الناس من النواحي للهو ويقيمون سبعة أيام‏.‏

ونقل إليها الصناع الخز والديباج والصوف وأمرهم بكتابة اسمه على طرزها واتخذ قواده بها دوراً وقصوراً فكثرت عماراتها‏.‏

وبقاضيها يضرب المثل في الخيانة وذلك ما حكي أن بعض الناس أودعه مالاً كثيراً فلما استرده جحد فاجتمع المودع بعضد الدولة وقال‏:‏ أيها الملك اني ابن فلان التاجر ورثت من أبي خمسين ألف دينار أودعت عشرين ألف دينار في قمقمتين عند هذا القاضي للاستظهار وكنت أتصرف بالباقي فوقعت في بعض أسفاري في أسر كفار الروم وبقيت في الأسر أربع سنين حتى مرض ملك الروم وخلى الأسارى فتخلصت وأنا رخي البال استظهاراً بالوديعة فلما طلبتها جحد وأظهر أنه لم يعرفني وكررت الطلب فقال لي‏:‏ انك رجل استولت السوداء على دماغك وأطعموك شيئاً وإني ما رأيتك إلا الآن‏!‏ دع عنك هذا الجنون وإلا حملتك إلى المارستان وأدخلتك في السلسلة‏!‏ فبكى عضد الدولة وقال‏:‏ أنا ظلمتك لما وليت مثل هذا‏!‏ أعطاه مائتي دينار وبعثه إلى أصبهان وكتب إلى عامل أصبهان إن يحسن إليه وقال له‏:‏ لا ترجع تذكر هذا الأمر لأحد وأقم في اصبهان حتى يأتيك أمري‏.‏

وصبر عضد الدولة على ذلك شهراً ثم طلب القاضي يوماً عند الظهيرة بالخلوة وأكرمه وقال له‏:‏ أيها القاضي ان لي سراً ما وجدت في جميع مملكتي له محلاً غيرك لما فيك من كمال العلم ووفور العقل والدين وهو ان لي أولاداً ذكوراً واناثاً‏.‏

أما الذكور فلست أهتم بأمرهم وأما الاناث فعندهن التقاعد عن الأمور وأنا أخشى عليهن فأردت أن تتخذ في دارك موضعاً صالحاً لوديعة لا يعلم بها أحد غير الله تدفعها إلى بناتي بعد موتي‏.‏

ودفع إلى القاضي مائتي دينار وقال‏:‏ اصرفها إلى عمارة ازج قعير يتسع لمائتين وأربعين قمقمة وإذا تم أخبرني حتى أبعث القماقم على يد بعض من يستحق القتل ثم اقتله‏.‏

فقال القاضي‏:‏ سمعاً وطاعة‏!‏ وقام من عنده فرحاً يقول في نفسه‏:‏ ذهبت بألفي ألف دينار أتمتع بها أنا وأولادي وأحفادي وإذا مات عضد الدولة من يطالب بالمال ولا حجة ولا شاهد واشتغل بعمل الازج وبعث عضد الدولة إلى أصبهان لإحضار الفتى المظلوم‏.‏

فلما أخبر القاضي عضد الدولة بإتمام الازج قال عضد الدولة للفتى المظلوم‏:‏ اذهب إلى القاضي وطالبه بالوديعة وهدده برفع الأمر إلى عضد الدولة‏!‏ فذهب إليه وقال‏:‏ أيها القاضي ساء حالي وطال ظلمك علي‏.‏

لآخذن غداً بلجام عضد الدولة‏!‏ فقام القاضي ودخل الحجرة وطلب الفتى وعانقه وقال‏:‏ يا ابن الأخ ان أباك كان صديقي واني ما حبست حقك إلا لمصلحتك لأني سمعت أنك أتلفت مالاً كثيراً فأخرت وديعتك إلى أن أعرف رشدك والآن وأخرج القمقمتين وسلمهما إليه فأخذهما الفتى ومضى إلى عضد الدولة بهما‏.‏

فأحضر القاضي وقال‏:‏ أيها الشيخ القاضي اني أجريت عليك رزقك لتقطع طمعك عن أموال الناس ولولا أنك شيخ لجعلتك عبرةً للناس وصح عندي أن جميع ما تتقلب فيه حرام من أموال الناس ‏!‏ فختم على جميع ما كان له وعزله ورد مال الفتى إليه وقال‏:‏ الحمد لله الذي وفقني لإزالة ظلم هذا الظالم‏!‏